نظرية المؤامرة- عدوى تنتشر، من مجتمعات الهزيمة إلى إسرائيل ما بعد 7 أكتوبر

المؤلف: د. أحمد أبو الهيجاء11.17.2025
نظرية المؤامرة- عدوى تنتشر، من مجتمعات الهزيمة إلى إسرائيل ما بعد 7 أكتوبر

لا ريب أن أخطر ما يواجه المجتمعات هو استشراء نظرية المؤامرة، فهي بمثابة سم يعطل التفكير السليم والمنطق، وتقف حجر عثرة أمام أي فعل بناء. إنها أشبه بأفيون يخدر العقول، وداء عضال يقوض إرادة التغيير. فكما يقال في قوانين الإشاعة، إن حجم الإشاعة يزداد مع ازدياد الغموض، فإن الإيمان بنظرية المؤامرة وانتشارها يزداد طرديًا مع حجم الهزيمة الداخلية والشعور بالعجز، بالإضافة إلى الجهل بالقضية المطروحة.

تُعرَّف نظرية المؤامرة بأنها محاولة تفسير حدث أو موقف ما بالاعتماد على وجود مخطط خفي غير معقول. غالبًا ما تتضمن هذه المؤامرات أفعالًا غير قانونية أو ضارة، يُزعم أن حكومة أو منظمة أو مجموعة من الأفراد قد ارتكبتها. وتتميز نظريات المؤامرة بتقديم افتراضات تتعارض مع الفهم التاريخي الراسخ للحقائق.

في ميدان العلاقات الدولية، لا يوجد مفهوم يُعرف بالمؤامرة. بل على العكس، كلما ازداد الباحث تعمقًا في هذا العلم، ابتعد عن تفسير الصراعات والأحداث بمنطق المؤامرة. وبدلًا من ذلك، يعتمد على أدوات التحليل العلمي التي تفسر العلاقات المعقدة بين المصالح المتضاربة والقوى المتنافسة. وهذا يعني أن أصحاب نظرية المؤامرة يفتقرون إلى الأساس العلمي المنطقي.

إن اختزال كل حدث جلل إلى مؤامرة، يعكس جهلًا بأبسط مبادئ علم التخطيط الاستراتيجي وبناء الخطط البديلة.

بمرور الزمن، تحولت نظرية المؤامرة إلى أيديولوجيا راسخة في العقلية العربية، وأصبحت المنهج الأساسي لتفسير الأحداث والوقائع. ويعزى ذلك إلى أسباب عديدة، أبرزها استمرار حالة الهزيمة والانكسار الذاتي والجمعي، مما خلق بيئة مواتية لترسيخ هذه النظرية لعقود طويلة من الإخفاقات. وهكذا، تحولت من مجرد أداة تحليل غير علمية إلى عقيدة وأيديولوجيا تتبناها فئات واسعة من الناس في المجتمعات المهزومة، بما فيها مجتمعات منطقتنا. مع الإقرار بانتشارها في مختلف المجتمعات، إلا أنها في مجتمعاتنا أكثر رسوخًا وتأثيرًا.

لقد أصبحت نظرية المؤامرة أيضًا مصدرًا للربح والكسب غير المشروع في مجال التأليف والنشر. وبما أنها لا تستند إلى قواعد علمية، فقد ازدهر سوق مثيري الفتن ومروجي الخرافات الذين يستغلون جهل الناس لتأليف الكتب التي تقدم تفسيرات للظواهر والأحداث الكبرى بناءً على نظرية المؤامرة. حتى أن كوارث طبيعية مروعة، مثل الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا، فسرتها بعض الفئات على أنها مؤامرة أمريكية مدبرة باستخدام تكنولوجيا الزلازل الاصطناعية، وصدقها الكثيرون وآمنوا بها!

يعتبر التأليف في إطار نظرية المؤامرة من أيسر السبل، لأنه لا يتطلب أدلة أو منطقًا علميًا. إنه مجرد تلاعب بالأحداث وتطويعها لربطها ببعضها البعض بطرق ساذجة وسطحية. وهناك أربع فئات رئيسية تقف وراء تأطير ونشر فكر ونظرية المؤامرة:

  • الفئة الأولى: هم الباحثون عن الشهرة والثروة، الذين يدركون وجود بيئة خصبة وجمهور واسع يتقبل هذه الأفكار.
  • الفئة الثانية: الأنظمة الاستبدادية وأذرعها في المنطقة، التي تسعى لتبرير عجزها وعدم رغبتها في العمل الفعلي، ولأن العلاقة بينها وبين مجتمعاتها لا تقوم على أسس طبيعية، فإنها تعمد إلى زرع الشك بدلًا من بناء الثقة لضمان استمرارها وبقائها.
  • الفئة الثالثة: هم أصحاب الفكر القدري الذين يفسرون الأحداث استنادًا إلى الغيبيات والخرافات التي لا تمت للدين الصحيح بصلة، متجاهلين سياقات المصالح وعلاقات القوة والاستغلال وهيمنة الرأسمالية المتوحشة وأدواتها.
  • الفئة الرابعة: هم المهزومون داخليًا الذين فقدوا الثقة في كل شيء من حولهم.

لقد ذكرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في مذكراتها أنها ضاقت ذرعًا بمستوى تفسير العديد من النخب العربية للأحداث بنظرية المؤامرة الأمريكية، وذلك خلال حواراتها معهم في ليبيا ومصر بعد أحداث الربيع العربي.

بالطبع، قد لا تكون كلينتون وغيرها مثالًا جيدًا للاستشهاد به، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: متى يمكننا التحرر من هذا الفكر المعطل للعقل والانطلاق نحو فكر العمل والمبادرة والفعل المؤثر، المنبثق من الإيمان بقدرة الجماهير والشعوب على التغيير؟

إن تفسير كل حدث جلل على أنه مؤامرة، يعكس جهلًا حتى بأبسط مبادئ علم التخطيط وبناء الاستراتيجيات والخطط البديلة. فاحتلال فلسطين، على سبيل المثال، ليس مؤامرة، بل هو فعل استعماري علني ومنظم، تحالفت فيه قوى استعمارية عظمى مع قوى تابعة لها في المنطقة.

يكفي أن نذكر أن الحركة الصهيونية، خلال مؤتمر بازل عام 1897، حين قررت إقامة دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين، حددت خمسين عامًا لتحقيق ذلك، ووضعت (57) مسارًا بديلًا في حال لم ينجح المشروع في فلسطين.

وبالمثل، فإن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تغيير استراتيجياتها واستحضار البدائل عند الأزمات، وفقًا لمصالحها، تجعلها تبدو وكأنها صانعة الحدث. وهذا ناتج عن قدرتها على بناء الخطط البديلة، في مقابل العشوائية وردود الفعل التي تحركنا، والتي تجعلنا نتصور أنها تقف وراء كل حدث عظيم.

هذه المقدمة كافية لتأطير سياقات نظرية وفكر المؤامرة. والآن، لننتقل إلى مجتمع جديد غزته هذه النظرية، وأصابته عدوى المنطقة بعد أن كان يعتبر نفسه متفوقًا عليها ومختلفًا عنها، وهو المجتمع الإسرائيلي ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول.

لقد غير السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أشياء كثيرة في المجتمع الإسرائيلي، وليس هذا المقال مجالًا لحصرها. ولكن المتابع للشأن الإسرائيلي يدرك تمامًا أنه بات مجتمعًا مختلفًا، تسربت إليه كل الأمراض الاجتماعية التي كانت تعتبر وصمة للمجتمعات المحيطة به.

لقد انتهت تلك الهالة التي كانت تحيط بإسرائيل، والتي جعلتها فوق الاعتبارات الأخلاقية والفكرية والجمعية للإرادة الكلية. وهذا ما صنع لها الفارق في ظل فترات السكون الإقليمي.

أصبحت نظرية المؤامرة أداة التفسير الأساسية لفئات ليست قليلة في المجتمع الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وأصبحت جزءًا من نمط التفكير وإدارة العلاقات. ولم يعد الإسرائيليون يوزعون الاتهامات بالمؤامرات فيما بينهم فحسب، بل إنهم استدعوا أيضًا غيبيات من تلمودهم تتحدث عن معارك آخر الزمان.

لا يحتاج ذلك إلى تفسير معقد. فالعقد الاجتماعي الذي قامت عليه العلاقة بين المجتمع والدولة في إسرائيل، والذي يتمثل في الثقة بالجيش والأمن، قد انهار. كما أنها المرة الأولى منذ عام 1948 التي يشعر فيها هذا المجتمع بحقيقة الهزيمة ويختبر مرارة الانكسار. وهذه هي البيئة المثالية لانتشار نظرية وفكر المؤامرة في أي مجتمع.

مؤخرًا، طلب رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" رونين بار من المراقب العام للدولة في إسرائيل ومن الحكومة تشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وذلك ردًا على اتهامات النائبة في الكنيست تالي غوتليب، من حزب الليكود، التي قالت: "إن نظرية مؤامرة كانت وراء أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، واتهمت الجيش الإسرائيلي والشاباك بالتواطؤ مع حماس في هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول".

وأضاف الشاباك في بيانه الذي طلب فيه لجنة التحقيق: "الجمهور يتوق إلى ذلك، والشاباك يتوق إليه. هكذا ستكون هناك نهاية لكل الأكاذيب ونظريات المؤامرة".

ما سبق ليس سوى مثال بسيط على حالة الهوس التي لم تستطع حتى الآن استيعاب فكرة تعرض إسرائيل لهكذا انتكاسة في ظروف طبيعية، ضمن حالة الشوفينية والاستعلاء التي تربى عليها هذا المجتمع. فأعاد إنتاج فكر المؤامرة الخاص به، ليثبت أنه ليس فريدًا ومختلفًا عن المجتمعات التي يعشعش فيها هذا السلوك، حيث التشكيك في كل شيء، والاتهامات المتبادلة، وانعدام الثقة بين المجتمع والقيادة، واستشعار المؤامرة في كل تفصيل. وقد انعكس ذلك إلى حالة هستيرية لا تصدق في التعامل مع فلسطينيي الداخل، وحتى بين اليهود أنفسهم.

أشارت صحيفة تلغراف البريطانية في تقرير لها إلى أن الإسرائيليين هذه الأيام يخشون "هرمجدون"، ويتوقعون نهاية العالم بعد هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، والحرب على غزة، ومؤشرات الحرب في الشمال مع لبنان.

ولمن لا يعرف ماذا تعني "هرمجدون"، فهي في الفكر التوراتي والعهد القديم لدى اليهود والإنجيليين تعني معركة نهاية العالم التي ستقع في منطقة مجدو في جنين شمال الضفة الغربية، وستسيل فيها دماء غزيرة ويُباد فيها غالبية اليهود، ويظهر المسيح المخلص. هذه هي إسرائيل اليوم، إنها ليست ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول.

لا يمكن حصر مستوى انتشار فكر المؤامرة في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فقد أصبح جزءًا من صلب التحليل السياسي والاجتماعي للأحداث. وهناك نوعان رئيسيان من نظريات المؤامرة في إسرائيل اليوم: النوع الأول يتعلق بكيفية دخول مسلحو حماس إلى جنوب إسرائيل، والنوع الثاني يتعلق بالسبب وراء هذا الدخول.

تقول إحدى نظريات المؤامرة الشائعة في إسرائيل، بحسب تقرير لصحيفة "هآرتس" العبرية عن انتشار نظرية المؤامرة: إن عملية "طوفان الأقصى" اخترقت التحصينات الإسرائيلية بسبب "الخيانة".

بينما يرى بعض الإسرائيليين أن الأمر يتعلق بخدعة سياسية دبرها بنيامين نتنياهو للبقاء في منصبه رئيسًا للوزراء، وليظهر في صورة منقذ إسرائيل من الهلاك.

والمثير للدهشة أن كل فريق في إسرائيل يصمم نظرية المؤامرة وفقًا لأهوائه. فأنصار نتنياهو، على سبيل المثال، يتهمون الجيش الإسرائيلي بأنه تواطأ وتآمر مع حماس للإطاحة بنتنياهو، لأن الجيش موالٍ للمعارضة والتظاهرات التي نظمتها للإطاحة به عقب احتجاجات الإصلاحات القضائية.

بينما يقول أنصار المعارضة في إسرائيل إن نتنياهو أمر الجيش بتأخير تدخله للقضاء على التظاهرات المناوئة له!

الأهم فيما سبق ليس ما يقوله أي طرف ضد الآخر في تصميم نموذج نظرية مؤامرة خاصة به، بل الأهم هو أن الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية هما محور نظرية المؤامرة، ما يعني فقدان الثقة بهما في كل الأحوال. وهذا هو أساس قيام دولة إسرائيل. إن فقدان المجتمع للثقة بالجيش يعني بداية انهيار مجتمع تم تصميمه بناءً على علاقة الثقة بين الجيش والمجتمع.

يمكن القول إن المجتمع الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أصبح شبيهًا في تفكيره بشريحة واسعة من المجتمعات والنخب العربية التي تغرق حتى الثمالة في فكر المؤامرة، نتيجة لعظم الهزائم والانكسارات التي تعيشها.

ومعارضو المقاومة في فلسطين والمنطقة العربية ليسوا بأفضل حالًا حين نسبوا "طوفان الأقصى" إلى مخطط عالمي لإنجاز قناة بن غوريون المائية، أو لتأسيس مدينة عالمية مكان غزة بعد تهجير سكانها، أو غير ذلك من الخزعبلات التي لا أساس علميًا لها إلا في فضاء السوشيال ميديا، وتبرير العجز وتخوين وتشويه صورة الآخر لتبرير التقاعس عن الفعل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة